من كتابِ " النظرات" لمصطفى لطفي المنفلوطي
أيها المحزون
إنْ كنتَ تعـْـلمُ أنـّـكَ أخذتَ على الدهرِ عهداً أنْ يكونَ لكَ كما تـُريدُ في جميعِ شؤونِكَ و أطوارك .. و ألا يُعطِـيـَـكَ ، و لا يمنـَعكَ إلاّ كما تـُحبٌّ و تشتهي ؛ فجديرٌ بكَ أنْ تـُطلِـقَ لنفسِكَ ، في سبيل الحـُزنِ ، عِنانـَها كلـّما فاتكَ مأربٌ ، أوِ استعصَى عليكَ مطلبٌ .
و إنْ كنتَ تعلمُ أخلاقَ الأيام في أخذِها و ردِّها ، و عطائها و مَـنـْعِها ، و أنـّها لا تنامُ عن منحةٍ تمنـَـحُها ، حتى تـَـكرَّ عليها راجعة ً ، فتستردَّها ، و أنّ هذه سُـنـّـتـُها ، و تلكَ خلـّـتـُها في جميعِ أبناء آدمَ ، سواءٌ في ذلكَ ساكنُ القـَصْر ، و ساكنُ الكوخ ، و مَن يَطأ ُ بنعـْـلِه هامَ الجوزاء ، و مَن ينامُ على بساطِ الغبراء ؛ فخفـّضْ مِن حُزنِك ، و كفكفْ مِن دمعِك . فما أنتَ بأوّل غرضٍ أصابَه سهمُ الزمانِ . و ما مُصابُـك بأوّل بدعةٍ طريفةٍ في جريدةِ المصائبِ و الأحزان.
أنتَ حزينٌ لأنّ نجماً زاهراً مِن الأمل كان يَـتـَراءَى لكَ في سماءِ حياتِكَ ، فيملأ ُ عَيْـنـَيْـكَ نـُوراً ، و قلبَـكَ سروراً ؛ و ماهيَ إلاّ كرّة ُ الطرْفِ أنِ افتقدتـَهُ ، فما وَجَدْتـَهُ . و لو أنـّـكَ أجْمَـلـْتَ في أملِكَ ، لـَما غـَـلـَوْتَ في حزنِك ، و لو أنتَ أنـْعَمْت نظرَك فيما تراءى لك ، لرأيتَ بَرْقاً خاطِفاً ما تظـنـُّه نـَجْماً زاهراً . و هنالكَ لا يُبْهـِرُكَ طلوعُهُ ، فلا يُـفـْجـِعُـكَ أفولـُه.
أسعَدُ الناسِ في هذهِ الحياةِ مَن إذا وافـَـتـْهُ النعمة ُ ، تـَـنكـَّرَ لها ، و نـَظـَرَ إليها نظرة َ المُستريبِ بها ، و تـَرَقــَّـبَ في كلِّ ساعةٍ زوالـَها و فناءَها ، فإنْ بقيَتْ في يدهِ فذاك ؛ و إلا فقد أعدَّ لفراقِها عُدّتـَهُ مِن قـَبْـلُ.
لولا السرورُ في ساعةِ الميلادِ ، ما كان البكاءُ في ساعةِ الموتِ ؛ و لولا الوثوقُ بدوامِ الغِنى ، ما كان الجَزَعُ مِن الفقر . و لولا فرحـة ُ التلاقِ ، ما كانتْ تـَرْحةُ الفِراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق